الأربعاء، ٢٤ مارس ٢٠١٠

نفس يغالب الشتاء


بين أنامل يد أبي الحانية الحازمة كانت أناملي تتوثب متطلعة لمزيد من الأمان، وكأنها تنهل من هذا الذي تعلم أنه سيفارقها بعد قليل، لتتوج باليتم حالاً ومقام، هناك كان الفعل والحضور وهنا كانت الاستعادة والإدراك، بين هذا وذاك، هنا وهناك، حينها والآن.. خرائب عمرتها الكتابة؟! ووقائع آطَّرها الوعي؟!، وخبرات عبَّدها الفن؟! ماذا بقى فيّ منها؟! وماذا أبقت لي منها الذاكرة؟!

كنت أطوف بأبي كاليويو الذي يعلم أن مستقره ليده، غير هياب بسيارات تقطع الشارع الجديد بين حين وحين.. ولم أكن أنا أو الطريق، نعرف شيئاً عن غده، الذي ستشكل قسماته أرجل وأمزجة الصبية الذين سيستحيلون أسطوات قبل أن يستوفوا مؤهلاتهم كتباعين.. في مثل عمرى الآن كان أبي يومها دون الأربعين.. أخذني من يدي لنعود قريب عاد من بلاد يفصل أو يوصل بيننا وبينها بحار..

ضجراً كان العائد إلى بلاده.. كانت المرارة تملاءه وكأنه لم يكن هنا يوماً أو بأمس القريب.. شاركه أبي الضحكات فسامره العائد بحكايات، حول صبيه يخرجون من حقيبة المدرسة ما يرشقون به شجرة التفاح مسقطين لكل منهم ثمرة واحدة.. يمسحونها بمناديل ورقية ويأكلونها فيمضون.. صبية يتركون للشجرة ما لا يلزمهم من الثمار -في أمان- رغم أنها ثمار تفاح؟!.. أين منها الجوافة التي تنتهك بالقرب منا مادام قد غفل عنها صاحبها ولو إلى حين؟!

شاركه أبي الضحك.. شاركه أبي ما لا أعرف.. فمثل أبي شاركت أنا صغار العائد لعبة المواساة وأنا لا أعرف قوانينها.. غير أنى عدت لأجد ابي يعدد مناقب زوجة العائد.. فهل كانت الزوجة محتاجة لمثل هذا الإطراء أم أن زوجها هو من كان بحاجة لتذكره؟! وما بواعثه الآن؟! اليوم أعي أن الأجنبيات قد رقن حتماً للرجل مثل صغارهن أو يزيد..

يستوقفني اليوم فيما حكاه أبي عن زوجة العائد من مآثر أنه لم يخالف الحقيقة؛ لم يقل أنها حسناء الحسان..لم يقل أنها عذبة الحديث راقية البيان.. لم يقل فيها إلا ما فيها.. بحث عما لا يزعزع مصداقيته لدى العائد.. فقال : المدبرة، المؤثرة، أم العيال.. ثم حل الاشتباك في فؤاد الرجل بين بلاد راقته وبلاد جافته، فحمل زوجته مجافاة بلاد بلا عدالة.. لا أدعي أن العائد قد عاد بكلمات إبي إلى مستقره .. لكنني أعي أنه كان نفس دافئ يعارك الشتاء..

أنتهت الزيارة وأنا أستعر.. لماذا لا يستدعي أبي الزوجة فيخبرها بما فعل من أجلها؟! لماذا لا يحصل على استحقاقه اللحظي؟! هذا أكثر ما كان يعذبني في الدراما وأنا أبن السادسة آنذاك.. تعقيدات تنبني فوق تعقيدات.. ومعلومات تتواري تحت جثوم ركام معلومات.. وأفعال تترتب على هذا الإخفاء.. كثيراً ما كانت تحدوني الرغبة في الإفشاء للبطل حلا، للتعقيد وكثيراً ما استدعيت أبطالاً في أحلامي لأعيد تصحيح معلوماتهم، ليسلكوا حينها بمنائى عن سوء الفهم العتيد..

لماذا لم يستدعها ابي ليعدد مزايها –بحضورها- فتعلم أي مكانة تحتلها لديه؟!، وأي عطاء -تعمد أن يخفيه- تحت قوائم هذا البيت وضعته يداه؟! حينما أخبرته بأنك في هذا الموقف تستحق التسامي فوقهما، لأن لك عليهما الآن يدا، ويجدر بك الحصول على نجمة.. تعجب قليلاً أنني قد فهمت شيء مما يدور حولي وأنا في تلك السن.. وابتسم وقال لي: مادمت فهمت تستحق المزيد.. كنت تريدها حاضرة للجلسة؟! أجبته ألف ألف نعم..

قال: لا تنصح أمرء أمام زوجه.. لا تنصح أمرء أمام من شاطره الخصام..

بقى العائد في بيته، ورحل أبى برفقة ملاك الموت، وترك لنا بيت.. نتسامر فيه ونتذكره، وأقف على أعتابه فأقول: هل ما علمتنيه بحضورك؟! يصلح أن يغالب به المرء صنائع الزمن الفقيد؟!